دفاعاً عن الكتب
16
لن أخفي تأثري بأفكار عالم الحواسيب «كال نيوبورت Cal Newport» فيما يتعلق بوسائل التواصل ورداءة مفهوم الميديا الجديدة ومساهمتها في تشتيت العقل، أو ربما إنشاء معرفة مجوّفة ذات فراغات وشوائب إن صح التعبير.
يمكن أن نشبّه عملية اكتساب المعرفة في وقتنا الحالي بأنها عملية غير خاضعة لإلغاء تجزئة الأقراص الموجودة في ويندوز «إكس بي XP» إن كنتم تذكروها. العملية باختصار هي أنه عندما تقوم بإنشاء مجلّد أو ملف ومن ثم تحذفه فإن القرص الصلب Hard Disk لديك يتبقى فيه أثر من ذلك الملف. الأمر مثل دق مسمار في خشبة. عندما تزيل المسمار سيبقى أثره موجود في الخشب، وفي الحاسوب نفس الأمر. عملية ردم آثار المسامير وإعادة تمسيد الخشب وتمسيد القرص الصلب كانت تدعى إلغاء التجزئة.
نفس الأمر بالنسبة للمعرفة واكتسابها. صدقوني أنه الآن وفي وقتنا الحالي ليس المهم أن تجمع أكبر قدر من المعلومات والبيانات. على العكس تمامًا، الأهم أن تبني معرفة خاضعة لعملية إلغاء تجزئة. أي بلغة أسلس وقريبة للفهم، المهم أن نبني معرفة ليس فيها ندبات وآثار سلبية ومشتتات وتحيزات، ولا مكان لشوائب الميديا والمونتاج البرّاق بين كل معلومة نكتسبها ومقال نقرأه أو كتاب نطالعه.
ليسَ المهم الآن أن تكتسب معرفة من أي مصدر كان، بل الأهم أن تأخذها نقية -دقق على كلمة نقية لأنها محورية في كلامنا القادم- غير مُشتتة بالصوتيات والمرئيات وآثار مسامير صدئة تشغل المسافات بين كل فكرة وأخرى.
حسنًا، لنترك العمومية التي لا تصيب النقطة المرجوة بدقة، ولنتكلم عن الأمر بأمثلة واضحة مُفصّلة.
مغادرة المعرفة المرئية التي يقدمها اليوتيوب الآن أمر شبه واجب فعله. لأن الإنسان في النهاية مجرد كائن تغريه المظاهر وتأثر به. فالفيديو صاحب المونتاج العالي سيهزم الفيديو صاحب المونتاج السيء بالرغم من أن المعلومات التي فيه والحقائق التي يناقشها ستكون شبه معدومة. إلا أن الغلبة الآن في مواقع -أديان العالم الجديد- كما سماها «يوفال حراري» ستكون لما يستثير الحواس لا لمن يستثير العقل.
هل تريد أن تنقد التطور؟ هذا جميل. هل تريد الدفاع عن التطور؟ هذا جميل أيضًا. هل تريد نصرة الأديان؟ هل تريد هدم الأديان؟ هل تريد الإيمان؟ هل تريد اللاإيمان؟ هل تريد المعنى؟ هل تريد العدم؟ أيًا كان ما تريده أدعوك لشيء واحد ليسَ له بديل، هو أن تبني معرفتك الكاملة بهِ، ومَشاربك الفكرية بأكملها عنهُ بناءً على الورق. بناءً على الكتب. بناء على خير الجليس الذي لطالما كانوا يمدحوه ويعظمون به. وإن سألتني لماذا الكتب حصرًا. لماذا ليس اليوتيوب أو المرئيات بشكل عام فسيكون سؤالًا لطيفًا منك. والجواب سيكون التالي:
- التجريد والنقاء هو السبب الأول والرئيس في تفوّق الكتب على المرئيات كالفيديوهات والتسجيلات وما إلى هنالك. التجريد في الكتب لا يجعلك تسمع صوت الكاتب، ولا يجعلك تعرف شكله. وفي كثير مِن الأحيان لا تعرف ما هو تخصصه أو خلفيته الأيدلوجية التي يتكلم منها إن تكلم طبعًا. في الكتب يكون النقاء المعرفي في أوجه الأقصى. أنت مع الكلام والورق فقط. بدون أصوات بدون مرئيات بدون مونتاج بدون أي شي. فمن الطبيعي أن يكون هذا الشكل من المعرفة هو الأنقى والأكثر سلامة للفكر. هذا المصدر هادئ وغير صاخب. والأهم من هذا كله. أنه يهذّب نفسك قبل أن يعلمك شيئًا. إذ دائمًا ما سيجعلك هادئًا ومُحترم الطباع.
- النقطة الثانية في تفوّق ما هو مَكتوب على ما هو مرئي ومسموع. أن المكتوب يكون بشكل عام عميقًا يناقش جميع الجوانب بدقة. القطع المتوسط من غالبية الكتب سيكون ربما 150 – 200 صفحة. فمحاولة عرض أي فكرة ضمن أي كتاب سيتم ناقشها بشكل مطوّل في 200 صفحة على الأقل. أي أنه سيتم إشباعها من كافة النواحي وتناولها من مُختلف الاتجاهات. والأهم من هذا كله أن هذا الإشباع سيكون صافيًا جدًا. كما قلت منذ قليل، بدون صوت، بدون صورة. بدون مونتاج وايقاع ومحاولة إثارة بصرية. كلها غير موجودة. أنت والمعرفة والحقائق وحدك وجهًا لوجه. مَشرب نقي جدًا لا يمكن نسخه بفيديوهات عقيمة هدفها اللفت البصري لا الفكري.
كما أن نسبة التزوير ومحاولة الغش والخداع شبه معدومة فيما هو مكتوب، لأنه باختصار من يريد ويضع في ذهنه خداع أحدهم سيلجأ إلى الطرق المرغوبة إلى الناس والأكثر إثارة لحواسهم، وطبعًا لن يقوم بتأليف 400 صفحة غير ملونة، بالأسود والأبيض لأجل ذلك!
- يمكننا أن نشبه المعرفة المكتسبة «يوتيوبيًا» بأنّها أشبه ما تكون بعملية تلقيم سريع للسلاح. حركة محفزة انفعالية تجعلك تعتقد أنك ذخيرة حية ومستودع من الحكمة المتنقلة الواجب فرضها. أما عملية الاكتساب المعرفي «الكتبي» إن صح التعبير، هي بطيئة تراكمية تعمل على كل طبقة على حدا. تمدّ الطبقة الأولى من المعرفة ثم تضع يدك كي تمسّدها بعناية تهيئةً لاستقبال الطبقة الثانية. تمد الطبقة التالية وتمسّد. وهكذا دواليك. كل هذا يسوده الهدوء والنقاء فلا يمكن للكتاب أن يجعلك تنفعل أو تتحمس كثيرًا. العملية المعرفية هنا هادئة ورزينة جدًا، عكس العملية المرئية التي أراها كتلقيم السلاح بالذخيرة. غالبًا ما تكون حماسية وتصدر صوتًا وفرقعةً.
في الحقيقة، أرى أن الموضوع استقطابي جدًا ويعتمد على ميول الشخص الأساسية. فإن كان سريع التشتيت كثير الحركة شديد الملل قليل الهدوء فهذا غالبًا سيميل للمرئيات أكثر من المحتوى المكتوب. أما لو كانت الشخصية في صُلبها هادئة رزينة. فغالبًا سيتجه لما هو مخطوط سواءً كتب أو مقالات حتى.
لاحظوا أن الآن ليس الكتاب في طور الهجران فحسب، بل أصبح المقال الذي يحتاج لضغطة وClick بسيطة أيضًا في طوره للأفول. الآن الذي يملكون الفضاء العام هم «الاستسهاليون». الذين يريدون See more وليس Continue Reading. لذلك في هذا الفيض المعلوماتي المشتت، أرى أنه من الواجب الاحترام جدًا لمن ما زال يقرأ كتابًا أو يتابع مقالًا أو أي شي مكتوب آخر. لأنه بفعله ذلك يخالف عدد من السوائد وشبه الغرائز التي تسيطر الآن. فالإغراء البصري والمشاهدات العالية والعناوين البراقة هي التي أصبحت تحقق الجذب وليس المعنى أو مقدار المعرفة النقية الصحيحة. فإن كنت ما تزال تتمسك بما هو مكتوب رغم كل تلك المقبلات والمهيجات المرئية اللذيذة الملونة التي تراها يوميًا فهو أمر جليل يستحق الاحترام وضرب التحية لك.
يمكنك أيضًا أن تجمع الاثنين معًا. مثلًا تقرأ كتابًا لطيفًا في مجال ما ثمّ تقوم بمشاهدة وثائقي أو شيء من هذا القبيل. لن نسلّب هذا الفعل كثيرًا، لكن كما قلت في البداية ومن وجهة نظري البحتة. أننا الآن لا نحتاج لاكتساب معرفة، بقدر ما نريد مستوى أقل من التلوّث أثناء هذا الاكتساب. والمشكلة أن المرئيات أصبحت كالذبابة في كوب الحليب. مجرّد أن تنزل ستعطّل الكوب بأكمله. والمعرفة هنا كذلك. كثير من الرزانة المكتوبة قد تهتز من مكانها بسبب ما يرى ويسمع خصوصًا في البدايات. لذا إن أردت رأيي فأنا من أنصار المعرفة الكتبية النقية بشكل شبه كامل لأنها لا تعطيك معلومات بقدر ما تربيك هدوءًا واحترامًا وموضوعيةً وعمقًا في المواضيع التي تقرأها وتكتب عنها ربما.
مواقع التواصل من أسمها بُرمجت لأجل «التواصل» أي إرسال الرسائل وترتيب الأعمال وما إلى هنالك. أما تحويلها لمصدر معرفي فهو خطر يستدعي التدخل في مقال نكتبه نحن الآن. ولربما القليل هم من سيقرأه لأن مواقع التواصل نفسها وخوارزمياتها التائهة ستمنعهم من الوصول إليه على حساب الأكثر مشاركة، والأكثر تسويقًا، والأشد تفاعلًا، وما إلى هنالك.
هل ترى مدى السوء الذي نحن فيه؟ وإلى أين سنتجه؟
0 comments: